الشريط الإخباري

الهوية الجامعة: العروبة الحضارية والعروبة السياسية-صحيفة البعث

من المتوقّع أن تدفع حصيلة الأحداث التي تشهدها الأقطار العربية اليوم بالرأي العام العربي إلى حالة استنهاض عارمة تتجلى بوعي مطابق لمخاطر الواقع المرير -الربيع ونقل السفارة- الذي لن ينجو من وطأته أي مواطن من المحيط إلى الخليج.

وعلى ما يبدو سيلوح في الأفق القريب وعي جديد للهوية الجامعة وللانتماء العروبي، على الرغم من المآسي التي ترزح الدولة الوطنية تحت ثقلها في هذه الأيام، تلك المآسي التي جعلت من نتاج حركة التحرر الوطني العربية، وحالة المدّ الوطني القومي التي عاشها العرب في القرن الماضي نتاجاً تبدّده رياح الهوان والتفريط والتطبيع والاستسلام والإسلام السياسي.

ليس هذا الرأي أو الشعور من قبيل التفاؤل المنشود كضرورة فقط، بل هو من صلب أصالة الهوية العربية الجامعة الراسخة التي عركتها الأيام عبر قرون دون أن تستطيع تبديدها أو محوها من الذاكرة الجمعية، فلهذه الهوية قوة كامنة تظهر دائماً كدفق حيوي فاعل في المنعطفات الخطيرة في حياة الأمة وفي تاريخها، فتشهد في كل منعطف يقظة فاعلة تعيد أجيال الأمة إلى أصالة الهوية ببعدها الحضاري والثقافي وتنقّيها من إشكالات البعد السياسي.

في هذا السياق سمعنا نتنياهو الأسبوع الماضي يعبّر عن يأسه من السلام والتطبيع مع «الزعماء» العرب بعد إدراكه ويقينه من ضعف سيطرة هؤلاء على الشارع العربي الرافض للصلح مع الكيان الصهيوني.

وفي السياق نفسه كان المفكر الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي قد أكد أن دعم الولايات المتحدة لهؤلاء «الزعماء» مقترن بابتعادهم عن مصالح الشعب، وبتطلّع هذا الشعب إلى الخلاص من هكذا زعماء.

لقد طالت الأيام التي تبعثر فيها وتشتت الفكر القومي العربي كثقافة وكمفكرين، وهذا لأسباب عديدة يأتي في طليعتها طفو ثقافة البترودولار المعولمة ولاسيما في حواضر الخليج الرجعية العربية، فتضاءل حضور المنابر والمؤلفات والأشخاص في عواصم الملتقيات القومية المعهودة في القرن الماضي: دمشق – القاهرة – بغداد – بيروت، لتنشط ملتقيات أخرى على موائد التخمة والارتزاق والرجعية العربية.

وقد رافق تشتت هذا الفكر، تشتت المشروع أيضاً فغابت مؤسسات العمل العربي المشترك عن الحضور وعن الفاعلية المنشودة، وانعكس ذلك سلباً على الهوية العربية الجامعة، فضاعت الأجيال والمؤسسات والأحزاب والمنظمات بين آفاق العروبة الحضارية من جهة، ومتاهات العروبة السياسية (العروبية) من جهة أخرى.

ومن اللافت للنظر في معمعان «الربيع العربي» ترافق سيطرة الوهابية بلبوسها الإجرامي التكفيري على الحرمين الشريفين مع نزوع الصهيونية -نضوجهما في زمان واحد ومكان واحد- للسيطرة على القدس.

فاليوم يترقب الناس ما ستفعله الرئاسة الأمريكية بخصوص نقل السفارة إلى القدس بعد أن أبلغ ترامب عدداً من «الزعماء» العرب «المسلمين» بنيّته التي أتت لاحقة للتركيز الانحرافي لهؤلاء الزعماء على أنشطة إيران في السياسة والتكنوقراط تركيزاً أفضى عند هؤلاء إلى أن المشكلة ليست في الصهيونية بل في إيران التي تعد اليوم في طليعة المنتصرين لقضية العرب والمسلمين المركزية.

في الظروف الراهنة الخطيرة يتوجّب علينا تدارك ما تضاءل حضوره وفاعليته من الفكر القومي العربي، لأن نجاح هذا التدارك يؤدي إلى إحياء المشروع القومي العربي في الوجدان وفي الواقع.

كما يجب علينا كقوميين عرب التركيز على الهوية الجامعة والتفريق بين «العروبة» كنسق فكري ثقافي، وبين «العروبية» كنهج سياسي، فلا بد من تحصين العروبة الحضارية كهوية جامعة وتنقيتها من العروبية السياسية التي تشوبها الانتماءات الضيّقة وتهددها بسهولة «الهويات القاتلة» بسبب ضعف منعتها قياساً إلى العروبة الحضارية التي استطاعت عبر تاريخها أن تضم برحابة صدرها المكوّنات الحضارية للشعوب الأخرى على مختلف انتماءاتها المناطقية والطائفية والمذهبية والعرقية والإثنية.

هذه العروبة الحضارية بهويتها الجامعة تتعرض لتهديد المركزية الغربية، والرجعية العربية وحليفهما الصهيوني… إلى أن وصل الأمر، بل بدأ بوضع الدولة الوطنية أولاً أمام تناقضات عديدة حتى مع نفسها من خلال ازدهار مركزيّة طرح المفهوم الأقلوي المرافق لمفهوم المظلومية والفتنة.

إن استدعاء الهويات الضيّقة المناهض للهويات الجامعة يترافق مع «الاستثمار» في طرح الهويات القاتلة، ولا يظننّ أحد أن هذه الطروحات طارئة في الألفية الثالثة، فعلى سبيل المثال كتب فؤاد عجمي «من مثقفي التكنوقراط والارتزاق» عام 1978 -عام اتفاقية كمب ديفد- في مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية بحثاً «نهاية القومية العربية» اجتهد فيه لتأكيد نهاية الإيديولوجية القومية الوحدوية.

وبالنتيجة فقد أثّرت اتفاقات الاستسلام والتطبيع الثلاثة في القرن الماضي في الهوية الجامعة وفي انكسار رسوخ العروبة الحضارية – كمب ديفد، وادي عربة، أوسلو – ودفعت هذه الاتفاقات إلى الإشكالات الراهنة للعروبة السياسية التي استثمرها الإسلام السياسي، ما أدى إلى انحرافات في مسار الصراع العربي الصهيوني. هذا في القرن الماضي وعليه نستطيع التنبؤ أو بالأحرى التيقّن بما سيؤدي إليه هذه الأيام «الربيع العربي» واستمرار الاتصال والتنسيق «العربي» مع العدو الصهيوني… وما يتصل بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وبأثر المال السياسي في تشتيت الهوية الجامعة.

إننا -أصحاب الهوية الحضارية الجامعة- مدعوون من المحيط إلى الخليج إلى توطيد حضور الفكر القومي العروبي، وإلى دحض ظواهر التعصّب والتزمّت الفكري والديني كهويات بديلة ضيقة قاتلة مفروضة من الخارج تتعارض مع النزعة الإنسانية الأصيلة للهوية الجامعة التي أثبتت عبر التاريخ والواقع قدرتها على الانفتاح والاندماج والتفاعل والتواصل مع العالم الحي، والتي تمكّنت عبر التاريخ من مجاراة نوازع الحداثة والإضافة والفعل الإيجابي البنّاء.

في هذا السياق تغدو الدعوة مشروعة ومشروعاً إلى إعادة قراءة، واستلهام، وتعميم حديث السيد الرئيس بشار الأسد الهام والتاريخي في لقائه المشاركين في الملتقى العربي لمواجهة الحلف الأمريكي الصهيوني الرجعي في 14-10-2017، ولاسيما تركيز سيادته على ضرورة تجاوز التحديات الخمسة التالية: ضرب علاقة الإسلام بالعروبة – وضع القومية العربية في مواجهة قوميات أخرى – آثار الأداء السياسي السيّئ للأنظمة العربية – اتهام العروبة بالتخلّف – استهداف اللغة في إطار الغربة الثقافية.

والحقيقة: فالهوية الحضارية الجامعة هي التي يُراهن عليها لأنها «أساس وجود المجتمع .. والقومية العربية هي الهوية وهي الانتماء، وهي ماضي وحاضر الشعوب التي عاشت على هذه الأرض، وهي أساس وجودها، وبها يرتبط المصير والأمل». فالتفاعل مع الواقع وتجاوز تحدياته أكبر وأهم من النظريات المستقرّة التي كانت فاعلة في لحظة تاريخية معيّنة.

بقلم د. عبد اللطيف عمران

 

انظر ايضاً

عصر التحولات الكبرى الجديدة بقلم: بسام هاشم

.. للمفارقة، فقد توجت “نهاية التاريخ” بتدمير نظام القطبية الأحادية نفسه، ليدخل عالم اليوم مرحلة …