الخروج العربي من حالة انعدام التوازن

لم تنته الحرب ولكنها على وشك الخروج من مرتسماتها الأساسية الأولية.. المقصود بذلك أننا نكاد نباشر الخروج من الحرب على سورية إلى الحرب على تداعياتها، وأننا في معرض مغادرة مرحلة التآمر الأعمى والحقد المحض والانتحار العبثي والمجاني للولوج في مرحلة مختلفة قد تكون العتبة للعودة إلى الحقائق والثوابت التاريخية والجغرافية المتعارفة، وهي أن “إسرائيل” هي العدو، وأن الأمن القومي العربي واحد، وأن العدوان على أي بلد عربي هو تمهيد أكيد للعدوان على البلدان الأخرى، وأن انزلاق بعض الدول العربية في تحالفات خارجية لإسقاط الدولة السورية – الدولة المركزية في إقليم بلاد الشام – إنما يذكّر بأسوأ الصفحات قتامة في تاريخ الصراعات العربية العربية، وأشدها سواداً وتعبيراً عن الانحطاط والتردي والتبعية، وأن تاريخ قرن كامل على التحرّر العربي من ربقة الاستعمارين العثماني والأوروبي الغربي ينبغي أن يبقى حيّاً في الذاكرة الجمعية، في مهمة تتناقلها الأجيال المتعاقبة، أمانة لا ينبغي التنازل عنها مهما كلّف الثمن.

وإذا كان من المجدي عدم الانزلاق في التفاؤل المفرط، فإن من الواجب عدم الاستخفاف بالحقائق التاريخية والجغرافية السياسية، أو التجاهل والمكابرة في التعامل مع المتغيّرات السياسية في تناقضاتها المتشابكة، أو الاعتقاد بأننا – كعرب – ينبغي أن نودّع العروبة إلى الأبد لأن البعض ضلّ الحساب، أو أخطأ الرهان، أو أعماه الحقد، ذلك أن المصير العربي ليس ملك جيل سياسي بعينه، أو مرحلة تاريخية محدّدة؛ وإذا كان علينا – كسوريين – أن نعيد تحقيق ذواتنا، مع كل حقبة جديدة، باعتبارنا آباء العروبة، وأبناءها الغيورين، وقلبها النابض، وحملة رسالة العروبة الحضارية للمرحلة المقبلة، فإن من المهم التأكيد على أن تجربة العدوان على سورية، ومحاولة تدمير الكيان العربي السوري من أساسه، وتقويض الدولة الوطنية السورية، ينبغي أن تبقى ماثلة كتجربة أليمة علّمتنا معنى الإيمان والثقة بالذات، والاستعداد للبذل والتضحية، والقدرة على الصمود والإنجاز، والأهلية لتحقيق الانتصار.. وأيضاً الاستعداد للتسامح، دون أن يعني ذلك إطلاقاً أننا يمكن أن ننسى أننا دفعنا الثمن غالياً من دماء شبابنا المقدّس والطاهر.

مناسبة هذه المقدّمة هي أن الخلاصات الرئيسية التي تمخضت عنها تسع سنوات من الحرب على سورية تتمثّل اليوم، أولاً، في الانكشاف التاريخي للإخوانية السياسية “المحلية”، شعارات وممارسة، باعتبارها وصفة أيديولوجية للتبعية والارتهان للخارج، الأطلسي والعثماني الجديد، وثانياً في عودة تجلي حقيقة أن الأطماع الأردوغانية في المنطقة العربية، مطعّمة بالنزعات العنصرية الطورانية، تتجاوز الحدود الجغرافية لتنسحب على التراث الروحي والثقافي والعقائدي والديني العربي، عدا عن الإلحاق بالسياسات والاستراتيجيات العسكرية الغربية والأطلسية، وهي أطماع لا تختلف في توسّل تطبيقاتها العملية عن الميكانيزمات الداعشية والصهيونية، من حيث اعتماد الاستيطان المباشر والمناقلات الديموغرافية الكثيفة – إن لم نقل الترحيل الجماعي والإبادة – كأدوات لتحقيق أجندات توسعية، فعلى امتداد السنوات الماضية أعطى الطاغية التركي لنفسه، ولزبانيته من متمولي حزب العدالة والتنمية، ومعهم “المعارضة” الخائنة والعميلة، حق التصرّف بالأرض والسكان والممتلكات، وأنشأ محميات خاصة بإدارة تركية بهدف توفير منصات دوارة لتصدير الإرهابيين في خدمة المشروع الأردوغاني لبناء الخلافة، التي كان عقدها له جورج بوش الابن، ومن بعد أوباما، في موجة صعود إيديولوجيا الشرق الأوسط الجديد، وما سمي “الربيع العربي” لاحقاً. وهناك ثالثاً الخطر الأردوغاني المتمثّل في تهديد الأمن والاستقرار في مصر والمغرب العربي (ليبيا وتونس خاصة)، والرغبة في التحكّم بعمليات استخراج وإمدادات الغاز في البحر المتوسط، وهو ما يتطلّب إعادة الاعتبار للأمن القومي العربي بمفهومه الواسع، فما يقوم به النظام التركي هو استباحة سافرة لا تعكس ميزان القوى على الأرض بقدر ما تعكس الاستقواء بالتحالفات واللعب على المتناقضات بما يخدم جدول أعمال شوفيني مندغم بنوع من جنون العظمة.

إن وقف العربدة الإسرائيلية وإعادة الظاهرة الأردوغانية إلى حجمها الطبيعي من خلال الخروج العربي من حالة انعدام الوزن هي المهمة الأشد إلحاحاً في الوقت الراهن على صعيد السياسة الخارجية؛ ورغم أن ذلك سيكون قاسياً للبعض، أقله من الناحية السيكولوجية، إلا أن السوريين قدموا التضحيات دفاعاً عن عناصر هويتهم الوطنية، وفي المقدّمة منها تمسّكهم بعروبتهم الحضارية حيث المستقبل المشترك والمصير الواحد الذي يحكمنا بموجب حقائق تاريخية ثابتة ومتجددة.

بسام هاشم